كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ثم يمضي السياق قدماً مع رحلة بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر ناجين:
{وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم}..
وقصة اتخاذ بني إسرائيل للعجل، وعبادته في غيبة موسى- عليه السلام- عندما ذهب إلى ميعاد ربه على الجبل، مفصلة في سورة طه السابقة النزول في مكة. وهنا فقط يذكرهم بها، وهي معروفة لديهم. يذكرهم بانحدارهم إلى عبادة العجل بمجرد غيبة نبيهم، الذي أنقذهم باسم الله، من آل فرعون يسومونهم سوء العذاب. ويصف حقيقة موقفهم في هذه العبادة: {وأنتم ظالمون}.. ومن أظلم ممن يترك عبادة الله ووصية نبيه ليعبد عجلاً جسداً، وقد أنقذه الله ممن كانوا يقدسون العجول!
ومع هذا فقد عفا الله عنهم، وآتى نبيهم الكتاب- وهو التوراة- فيه فرقان بين الحق والباطل، عسى أن يهتدوا إلى الحق البين بعد الضلال.
ولم يكن بد من التطهير القاسي؛ فهذه الطبيعة المنهارة الخاوية لا تقومها إلا كفارة صارمة، وتأديب عنيف. عنيف في طريقته وفي حقيقته:
{وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم}..
أقتلوا أنفسكم. ليقتل الطائع منكم العاصي. ليطهره ويطهر نفسه.. هكذا وردت الروايات عن تلك الكفارة العنيفة.. وإنه لتكليف مرهق شاق، أن يقتل الأخ أخاه، فكأنما يقتل نفسه برضاه. ولكنه كذلك كان تربية لتلك الطبيعة المنهارة الخوارة، التي لا تتماسك عن شر، ولا تتناهى عن نكر. ولو تناهوا عن المنكر في غيبة نبيهم ما عبدوا العجل. وإذ لم يتناهوا بالكلام فليتناهوا بالحسام؛ وليؤدوا الضريبة الفادحة الثقيلة التي تنفعهم وتربيهم!
وهنا تدركهم رحمة الله بعد التطهير:
{فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم}.
ولكن إسرائيل هي إسرائيل! هي هي كثافة حس، ومادية فكر، واحتجاباً عن مسارب الغيب.. فإذا هم يطلبون أن يروا الله جهرة، والذي طلب هذا هم السبعون المختارون منهم، الذين اختارهم موسى لميقات ربه- الذي فصلت قصته في السور المكية من قبل- ويرفضون الإيمان لموسى إلا أن يروا الله عياناً. والقرآن يواجههم هنا بهذا التجديف الذي صدر من آبائهم، لينكشف تعنتهم القديم الذي يشابه تعنتهم الجديد مع الرسول الكريم، وطلبهم الخوارق منه، وتحريضهم بعض المؤمنين على طلب الخوارق للتثبت من صدقه:
{وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.. إن الحس المادي الغليظ هو وحده طريقهم إلى المعرفة.. أم لعله التعنت والمعاجزة..
والآيات الكثيرة، والنعم الإلهية، والعفو والمغفرة.. كلها لا تغير من تلك الطبيعة الجاسية، التي لا تؤمن إلا بالمحسوس، والتي تظل مع ذلك تجادل وتماحل ولا تستجيب إلا تحت وقع العذاب والتنكيل، مما يوحي بأن فترة الإذلال التي قضوها تحت حكم فرعون الطاغية قد أفسدت فطرتهم إفساداً عميقاً. وليس أشد إفساداً للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقّوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد: استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمرداً حين يرفع عنها السوط، وتبطراً حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة.. وهكذا كانت إسرائيل، وهكذا هي في كل حين..
ومن ثم يجدفون هذا التجديف. ويتعنتون هذا التعنت:
{وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}:
ومن ثم يأخذهم الله جزاء ذلك التجديف، وهم على الجبل في الميقات المعلوم:
{فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون}..
ومرة أخرى تدركهم رحمة الله، وتوهب لهم فرصة الحياة عسى أن يذكروا ويشكروا، ويذكرهم هنا مواجهة بهذه النعمة:
{ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون}..
ويذكرهم برعايته لهم في الصحراء الجرداء حيث يسر لهم طعاماً شهياً لا يجهدون فيه ولا يكدون، ووقاهم هجير الصحراء وحر الشمس المحرق بتدبيره اللطيف:
{وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}..
وتذكر الراويات أن الله ساق لهم الغمام يظللهم من الهاجرة. والصحراء بغير مطر ولا سحب، جحيم يفور بالنار، ويقذف بالشواظ. وهي بالمطر والسحاب رخية ندية تصح فيها الأجسام والأرواح.. وتذكر الروايات كذلك أن الله سخر لهم {المن} يجدونه على الأشجار حلواً كالعسل، وسخر لهم {السلوى} وهو طائر السماني يجدونه بوفرة قريب المنال. وبهذا توافر لهم الطعام الجيد، والمقام المريح، وأحلت لهم هذه الطيبات.. ولكن أتراهم شكروا واهتدوا.
إن التعقيب الأخير في الآية يوحي بأنهم ظلموا وجحدوا. وإن كانت عاقبة ذلك عليهم، فما ظلموا إلاَّ أنفسهم!
{وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}..
ويمضي السياق في مواجهتهم بما كان منهم من انحراف ومعصية وجحود:
{وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون}..
وتذكر بعض الروايات أن القرية المقصودة هنا هي بيت المقدس، التي أمر الله بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر أن يدخلوها، ويخرجوا منها العمالقة الذين كانوا يسكنونها، والتي نكص بنو إسرائيل عنها وقالوا: {يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} والتي قالوا بشأنها لنبيهم موسى- عليه السلام-: {إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} ومن ثم كتب عليهم ربهم التيه أربعين سنة، حتى نشأ جيل جديد بقيادة يوشع بن نون، فتح المدينة ودخلها.. ولكنهم بدلاً من أن يدخلوها سجداً كما أمرهم الله، علامة على التواضع والخشوع، ويقولوا: حطة.. أي حط عنا ذنوبنا واغفر لنا.. دخلوها على غير الهيئة التي أمروا بها، وقالوا قولاً آخر غير الذي أمروا به..
والسياق يواجههم بهذا الحادث في تاريخهم؛ وقد كان مما وقع بعد الفترة التي يدور عنها الحديث هنا- وهي عهد موسى- ذلك أنه يعتبر تاريخهم كله وحدة، قديمه كحديثه، ووسطه كطرفيه.. كله مخالفة وتمرد وعصيان وانحراف!
وأيًّا كان هذا الحادث، فقد كان القرآن يخاطبهم بأمر يعرفونه، ويذكرهم بحادث يعلمونه.. فلقد نصرهم الله فدخلوا القرية المعينة؛ وأمرهم أن يدخلوها في هيئة خشوع وخضوع، وأن يدعوا الله ليغفر لهم ويحط عنهم؛ ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم، وأن يزيد المحسنين من فضله ونعمته. فخالفوا عن هذا كله كعادة يهود:
{فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم}..
ويخص الذين ظلموا بالذكر. إما لأنهم كانوا فريقاً منهم هو الذي بدل وظلم. وإما لتقرير وصف الظلم لهم جميعاً، إذا كان قد وقع منهم جميعاً.
{فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون}..
والرجز: العذاب. والفسوق: المخالفة والخروج.. وكانت هذه واحدة من أفاعيل بني إسرائيل!
وكما يسر الله لبني إسرائيل الطعام في الصحراء والظل في الهاجرة، كذلك أفاض عليهم الري بخارقة من الخوارق الكثيرة التي أجراها الله على يدي نبيه موسى- عليه السلام- والقرآن يذكرهم بنعمة الله عليهم في هذا المقام، وكيف كان مسلكهم بعد الإفضال والإنعام:
{وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.
قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}..
لقد طلب موسى لقومه السقيا. طلبها من ربه فاستجاب له. وأمره أن يضرب حجراً معيناً بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بعدة أسباط بني إسرائيل، وكانوا يرجعون إلى اثني عشر سبطاً بعدة أحفاد يعقوب- وهو إسرائيل الذي ينتسبون إليه- وأحفاد إسرائيل- أو يعقوب- هم المعروفون باسم الأسباط، والذين يرد ذكرهم مكرراً في القرآن، وهم رؤوس قبائل بني إسرائيل. وكانوا ما يزالون يتبعون النظام القبلي، الذي تنسب فيه القبيلة إلى رأسها الكبير.
ومن ثم يقول: {قد علم كل أناس مشربهم}.. أي العين الخاصة بهم من الاثنتي عشرة عيناً. وقيل لهم، على سبيل الإباحة والإنعام والتحذير من الاعتداء والإفساد:
{كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}..
لقد كانوا بين الصحراء بجدبها وصخورها، والسماء بشواظها ورجومها. فأما الحجر فقد أنبع الله لهم منه الماء، وأما السماء فأنزل لهم منها المن والسلوى: عسلاً وطيراً.. ولكن البنية النفسية المفككة، والجبلة الهابطة المتداعية، أبت على القوم أن يرتفعوا إلى مستوى الغاية التي من أجلها أخرجوا من مصر، ومن أجلها ضربوا في الصحراء.. لقد أخرجهم الله- على يدي نبيهم موسى- عليه السلام- من الذل والهوان ليورثهم الأرض المقدسة، وليرفعهم من المهانة والضعة.. وللحرية ثمن، وللعزة تكاليف، وللأمانة الكبرى التي ناطهم الله بها فدية. ولكنهم لا يريدون أن يؤدوا الثمن، ولا يريدون أن ينهضوا بالتكاليف، ولا يريدون أن يدفعوا الفدية. حتى بأن يتركوا مألوف حياتهم الرتيبة الهينة. حتى بأن يغيروا مألوف طعامهم وشرابهم، وأن يكيفوا أنفسهم بظروف حياتهم الجديدة، في طريقهم إلى العزة والحرية والكرامة. إنهم يريدون الأطعمة المنوعة التي ألفوها في مصر. يريدون العدس والثوم والبصل والقثاء.. وما إليها! وهذا ما يذكرهم القرآن به. وهم يدعون في المدينة دعاواهم العريضة:
{وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}..
ولقد تلقى موسى- عليه السلام- طلبهم بالاستنكار:
{أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}..
أتريدون الدنية وقد أراد الله لكم العلية؟
{اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم}..
إما بمعنى أن ما يطلبونه هين زهيد، لا يستحق الدعاء؛ فهو موفور في أي مصر من الأمصار، فاهبطوا أية مدينة فإنكم واجدوه فيها.. وإما بمعنى عودوا إذن إلى مصر التي أخرجتم منها.
عودوا إلى حياتكم الدارجة المألوفة. إلى حياتكم الخانعة الذليلة.. حيث تجدون العدس والبصل والثوم والقثاء! ودعوا الأمور الكبار التي ندبتم لها.. ويكون هذا من موسى- عليه السلام- تأنيباً لهم وتوبيخاً..
وأنا أرجح هذا التأويل الذي استبعده بعض المفسرين، أرجحه بسبب ما أعقبه في السياق من قوله تعالى:
{وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله}..
فإن ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وعودتهم بغضب الله، لم يكن- من الناحية التاريخية- في هذه المرحلة من تاريخهم؛ إنما كان فيما بعد، بعد وقوع ما ذكرته الآية في ختامها:
{ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.
وقد وقع هذا منهم متأخراً بعد عهد موسى بأجيال. إنما عجل السياق بذكر الذلة والمسكنة والغضب هنا لمناسبته لموقفهم من طلب العدس والبصل والثوم والقثاء! فناسب أن يكون قول موسى لهم، {اهبطوا مصراً} هو تذكير لهم بالذل في مصر، وبالنجاة منه، ثم هفوة نفوسهم للمطاعم التي ألفوها في دار الذل والهوان!
ولم يشهد تاريخ أمة ما شهده تاريخ إسرائيل من قسوة وجحود واعتداء وتنكر للهداة. فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عدداً من أنبيائهم- وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق المخلصين- وقد كفروا أشنع الكفر، واعتدوا أشنع الاعتداء، وعصوا أبشع المعصية. وكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست مثلها أفاعيل!
ومع هذا كله فقد كانت لهم دعاوى عريضة عجيبة. كانوا دائما يدعون أنهم هم وحدهم المهتدون، وهم وحدهم شعب الله المختار، وهم وحدهم الذين ينالهم ثواب الله؛ وأن فضل الله لهم وحدهم دون شريك.. وهنا يكذب القرآن هذه الدعوى العريضة، ويقرر قاعدة من قواعده الكلية، التي تتخلل القصص القرآني، أو تسبقه أو تتلوه. يقرر قاعدة وحدة الإيمان.. ووحدة العقيدة، متى انتهت إلى إسلام النفس لله، والإيمان به إيماناً ينبثق منه العمل الصالح. وإن فضل الله ليس حجراً محجوراً على عصبية خاصة، إنما هو للمؤمنين أجمعين، في كل زمان وفي كل مكان، كل بحسب دينه الذي كان عليه، حتى تجيء الرسالة التالية بالدين الذي يجب أن يصير المؤمنون إليه:
{إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}..
والذين آمنوا يعني بهم المسلمين. والذين هادوا هم اليهود- إما بمعنى عادوا إلى الله، وإما بمعنى أنهم أولاد يهوذا- والنصارى هم اتباع عيسى- عليه السلام- والصابئون: الأرجح أنهم تلك الطائفة من مشركي العرب قبل البعثة، الذين ساورهم الشك فيما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام، فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها، فاهتدوا إلى التوحيد، وقالوا: إنهم يتعبدون على الحنيفية الأولى، ملة إبراهيم، واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة فيهم.
فقال عنهم المشركون: إنهم صبأوا- أي مالوا عن دين آبائهم- كما كانوا يقولون عن المسلمين بعد ذلك. ومن ثم سموا الصابئة. وهذا القول أرجح من القول بأنهم عبدة النجوم كما جاء في بعض التفاسير.